أخرج ابن الشجري في أماليه الحديثية [1/168/ طبعة عالم الكتب ] من طريق أبي علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكواكبي، قال حدثنا علي بن حرب بن محمد، قال حدثنا أبو عبد الله الرازي، قال حدثنا محمد بن خالد بن إبراهيم بن سليمان السكوتي، قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن محمد بن عبيد الله عن جده، قال : ( كان شاب يختلف إلى ابن عباس رضي الله عنه، فيدنيه ويقربه، فقيل له إنك تُدْني هذا وهو شاب سوء ! يأتي القبور وينبشها ! ويسلب الموتى !فقال لا أصدق هذا حتى أراه بعيني ، قالوا: فواعدنا موعداً نُريكه، فواعدهم ابن عباس المقابرَ، فخرجوا فاختفوا في ناحية منها، فلما كان هوى من الليل ، إذا الشاب قد أقبل يتخلل القبور ، حتى أتى قبراً قد حُفر وسُوَّى لحده ، فاضطجع فيه، ثم أقبل ينادي: يا ويلي إذا دخلتُ لحدي وحدي، ونطقت الأرض تحتي، فقالت : لا مرحباً بك ولا أهلاً ! قد كنتُ أبغضك وأنت على ظهري، فكيف قد صرتَ في بطني ؟! يا ويلي إذا خرجتُ من لحدي وحدي ، حاملاً وِزْري على عنقي، وقد يبرأ مني أمي وأبي وزوجتي ، ومن له سعيي من ولدي ! وأسلموني إلى مَنْ بالحساب يدري ، يا ويلي إذا نظرتُ إلى الأنبياء وقوف ، والملائكة صفوف ، كلٌ يُنادي : نفسي نفسي ! فمَِنْ عذاب غدٍ مَنْ يُخَلِّصني ؟ ومِنَ المظلومين مَنْ سيُنقذني ؟ ومِنْ أهوال يوم القيامة من يؤمِّنُني، وعلى الصراط مَنْ يُثَبِّتْ قدمي ؟ عصيتُ َمَنْ ليس له بأهل أن يُعصى، عاهدت ربي مرة بعد أخرى ،فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاء ..... !! فأقبل ابن عباس حتى وقف على شفير القبر وقال: نِعْمَ النَبَّاش ! ما أنبشَك للذنوب والخطايا ! فنهض الشاب من القبر فعانقه ابن عباس وتفرقوا. ) .
قلتُ :
وهذه حكاية قد درجتْ على ألسنة بعض الناس ، ولا يصح سندها إلى ابن عباس ! لكنها وافقتْ في القلب موضِعَا ، وأفاضتْ من عين الأحزان مدْمَعا ، وأقَضَّتْ عن وثير الفراش مضْجعا ، وحرَّكتْ من كوامن الأوجاع كلَّ ساكن ، وهيَّجتْ بحرارة نظمها تلك الحسراتِ الكوامن ، وأيقظت بناعق وعظها من جفون جوارح الغفلة كلَّ رِمْشٍ نائم ، وعبثتْ بريشة لفحاتِ حروفها في ديباجة جبين كل ضارب في متاهات الغفوة وعلى وجهه هائم ! بل وأصابتْ بسهام دَوِيِّها مقاتلَ الأحرار ! وأحرقتْ بلهيب نشيجها مِنْ لذَّات الشهوات ما تعاقب عليه الليل والنهار !
فآهٍ على أيام مضَتْ ولياليها على زلاتنا شهود ، وآهِ على أزمنة ولَّتْ ونحن في غمرات الشهوات رُقود ! بل لهفي على أعمارٍ فاتتْ ولم تكن أوقاتها بالخير معمورة ، وَوَاهاً على هفواتِ سَنَراها يوم النشور في صحف الأعمال مسطورة !
بل آهٍ على شباب ولَّى في غير طاعة الله ، ووا خيبة الآمال على أيام خلتْ في معصية الله ! بل وامصيبتاه إذا نجا الناس وهلكنا ! ووا حسرتاه إذا قيل للبهائم : « كونوا ترابا » ونحن في العذاب تُرِكْنا ! وواضيعة العمر إذا كنا من أهل النار ! ووا حرقة القلب إذا هُتِكَتْ الأستار ! وكُشِفتْ الأسرار ! وقيل لنا يوم النشور : مكانكم ! فقد غضب عليكم الجبار !
ووالله ما نكاد ندري ؟ على أيِّ شئ نَدَعُ العيون تذرف و تبكي ! أَعَلَى تلك النفس العَنُود في غير ما يُجْديها ! والناقمة في غير ما يرضي خالقها وباريها !
أم على إخواننا المعذبين في جنبات الأرض ، والشاردين في بلدانها بالطول والعرض !
هناك .. هناك .. حيث ترى الفرحة مذبوحة ! والابتسامة مطموسة ! والآمال منقطعة ، والأحلام منخنقة ! وكل جميل مُتكدّر ، وكل شريف مُتحسِّر ، وكلَّ حسناء دمعها على خده الأسيل مُتحدِّر ، وكلَّ أمِّ ثكلى الفؤاد ، طريحةً من طول السُّهاد ، وكل طفل على الأرض دمه قد سال ، وكل جميل عليه التراب قد انهال ، وكل عزيز صار إلى زوال !
إلى غير ذلك مما يجرح الحُرَّ إذا رسمه بقلم ، لكونه يذر في قلب كاتبه الألم !
فاللهم : عَوْذاً بك من صباح يكون مطلع شمسه إلى الجحيم ! وعَوْذاً بك من أُفول قمر لا يُسفر عن صفحته إلا ونحن في غمار ذلك العذاب الأليم ! ضاقت بنا الأرض ورحمتك لنا أوسع ، وانقطعت بنا السبل و خيرك بنا أعظم وأجمع ..
فاللهم : كما أوجدتنا على الإسلام ، فأمِتْنَا عليه ، وكما عرَّفْتَنا بجميل عفوك فخذ بزمامنا إليه .
فإنك بكل جميل كفيل ... وأنت حسبنا ونعم الوكيل